(قراءة
في تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي و العشرين المقدم إلى اليونيسكو [i])
إحدى عشر سنة مرت من القرن الحادي و العشرين، العالم
يتجه بخطى حثيثة، حديثة وسريعة إلى مستقبل أكثر صعوبة. هوة كبيرة بين عالمين
مختلفين تماما، و البشرية مطالبة أكثر فأكثر بتحقيق السلام و الحرية و العدالة
الاجتماعية. العالم يتجه نحو التحديات الأكثر أهمية في حياة الإنسان الحديث للحد
من الفوارق في مستويات التنمية، وليس هناك أفضل من التربية و التعليم لتحقيق هذه
اليوتوبيا الضرورية.
العالم
اليوم مجبر على كسب رهان تعلم العيش معا على كوكب واحد، في إطار الاحترام المتبادل،
و لا يكون هذا إلا بقبول الآخر في مجتمعاتنا الطبيعية التي ننتمي إليها، من الأمة
إلى المدينة، فالقرية ، فالحي... وهذا لا يتأتى إلا من خلال الشعور بالمسؤولية و
الإحساس بالمواطنة، ومن ثمة التأسيس للديمقراطية. و الحقيقة أنّ وضع السياسات
التربوية في إطار استشرافي كفيل بإقامة هذا العالم الذي يحقق التنمية البشرية
المستديمة، و يعزّز التفاهم بين الشعوب، و يجدّد الديمقراطية.
إنّنا
اليوم مجبرون على تجاوز التوترات و التغلّب عليها على كل المستويات، و نقصد بذلك
التوتر بين العالمي والمحلي، بين الكلي و الخصوصي، بين الأصالة و الحداثة، بين الحاجة
إلى التنافس و الحرص على تكافؤ الفرص، بين اكتساب المعرفة و القدرة على استيعابها،
بين إنتاج المعرفة و نشرها. إنّنا اليوم بحاجة إلى صياغة وبناء مستقبلنا المشترك،
وهذا كله لن يتحقق إلا إذا اعتبرنا قضية التعلم مدى الحياة قضيتنا الأولى. إنّ
إحلال التعلم مدى الحياة يتطلب منا إعادة التفكير في مختلف مراحل التعليم و الربط
فيما بينها، من التعليم ما قبل المدرسي إلى التعليم الجامعي، بما في ذلك التعليم
أو التدريب الفني المهني. إنّ الاهتمام بالتعليم يقود إلى بناء استراتيجيات إصلاح
شامل لمختلف أطوار التعليم، و نقصد بالاستراتيجيات الفلسفات التعليمية واضحة
المعالم، التي تتماشى مع الإمكانات و المعطيات، الفلسفات التربوية الهادفة إلى إحداث
التماسك الفكري و الاجتماعي، بدءا بمحو الأمية، و وصولا إلى الرقي بالتعليم
الأكاديمي النظري والفني، أضف إلى ذلك تعليم المرأة، لأننا اليوم نعيش على كوكب
يتزايد سكانه باطراد، والعولمة في هذا العالم فرضت النقلة من المجتمع المحلي إلى
المجتمع العالمي، و التكنولوجيات الجديدة أدخلت العالم إلى عصر الاتصال، عصر المعلومات،
التخاطب، النقاش، المعارف، عصر التداول الحر للصّورة و الكلمة. إنّه العالم الحديث
المفتوح على كل الاحتمالات ..
إن
الرقي بالتربية و الاستثمار فيها يحقق التلاحم الاجتماعي، ينسج الروابط الاجتماعية
بين الأفراد، كما يحقق الانتقال إلى مرحلة المشاركة الديمقراطية. إنّ الاهتمام
بالتربية و التعليم يضمن القضاء على أشكال الاستبعاد و الإقصاء؛ لأنّ كلّ شخص مهم
على هذه الأرض. إنّ التربية السّليمة و التعلم الجيد يؤسّسان لممارسة المواطنة و
بناء المجتمع المدني، و العيش فيه. إنّ تحقيق الإصلاح التربوي في أيّ بلد يقود إلى
النمو الاقتصادي، و بالتالي تحقيق التنمية البشرية، و هنا يصبح الطلب على التعليم
لغايات اقتصادية، بمعنى أن زيادة الاستثمار في التعليم يساوي زيادة رأس المال
البشري..
إنّ
الاستثمار في التربية يتطلّب معرفة الدعائم التي تتأسس عليها، إنّها الأهداف التي
يؤدي إنجازها إلى اكتشاف طاقة كل فرد الإبداعية و إطلاقها، إيقاظها و تعزيزها، إنّها
الدعائم التي تستثمر في الكنز المكنون، الأهداف التي تتيح للعقل الإنساني أن يكون
مبدعا. عندما يدرك الإنسان بأنّه يتعلّم للمعرفة، حينها فقط يتجه إلى إتقان أدوات
المعرفة، حين ذاك فقط يعرف أنه يكتسب المعرفة، لينتجها و ينشرها في مرحلة لاحقة. هكذا
يدرك أهمية التعلّم للمعرفة، التعلم للعمل، ويحقق الفهم العميق لكلا المفهومين،هكذا
يعلم الانتقال من مفهوم المهارة إلى مفهوم الكفاءة، هكذا يدرك، و يتعلّم الفرد كيف
يعيش مع الآخرين، كيف يكتشف الآخرين و يعمل على بلوغ الأهداف المشتركة. هكذا يتعلّم
الفرد كيف يكون حرّا، قادرا، و مسئولا، هكذا يتعلّم كيف يكوّن لنفسه فكرا مستقلاّ
وناقدا، كيف يصوغ أحكاما شخصية من خلال تجاربه الشخصية، ومشاركاته في الحياة.
بعدما
قدمنا هذا الطرح المتعلق بأهمية التعلّم، علينا أن نشير إلى أنّنا اليوم في
الجزائر و في كلّ العالم العربي بحاجة ملحّة لإصلاحات جذرية تمسّ سياساتنا
التربوية العقيمة، إنّنا في حاجة لإعادة النظر في فلسفاتنا، و استراتيجياتنا؛ لأنّنا
في القرن الحادي و العشرين. إنّنا مطالبون بالابتعاد عن سياسات الترقيع في التربية،
نحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بمراجعة دور التربية في مجتمعاتنا، إنّنا
ملزمون بتخصيص المزيد من الموارد، و توجيه الاستثمار إلى هذا القطاع الحيوي في مسيرة
التنمية على مستوى بلداننا، هذا إذا ما أردنا تبوّء مكانة محترمة بين مجتمعات
التعلّم والمعرفة، في عالم ليس فيه مكان لأصحاب القدرات المحدودة، و العقول
القاصرة.
*نشر بصحيفة الجزائر نيوز. العدد: 2268، 23 جوان2011
[i]
التعلم ذلك الكنز المكنون : تقرير قدمته إلى
اليونيسكو اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي و العشرين .مركز مطبوعات
اليونيسكو بالقاهرة .1999
التعبيراتالتعبيرات
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.